الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة صدرت عن دار مسكيلياني للنشر مؤخرا: رواية "آخذك وأحملك بعيدا" للروائي الإيطالي نيكولّو أمانيتي

نشر في  08 جانفي 2016  (10:32)

صدرت عن دار مسكيلياني للنشر في 448 صفحة، ضمن سلسلة "ألف راء" التي يُديرها الشاعر شوقي العنيزي، والروائي ظافر ناجي، رواية "آخذك وأحملك بعيدا" للروائي الإيطالي نيكولّو أمانيتي، في ترجمة بديعة للمترجم السوري معاوية عبد المجيد، وتقديم الشاعر نصر سامي، ويُعدّ نيكولو أمانيتي من أبرز كتّاب الجيل الجديد في الرواية الإيطاليّة، ذاع صيته عالميا بعد نشر روايتيه: "آخذك وأحملك بعيدا" و"أنا لا أخاف" اللتين ترجمتا إلى أكثر من 21 لغة وحوّلتا إلى عملين سينمائيّين.

بعيدا عن الأسلوب... قريبا من الحياة

لئن كان الاحتفاء بفخامة الأسلوب ومتانة اللغة هو السمة البارزة للرواية الإيطالية خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، فقد مثّل الجيل الجديد الذي تزّعمه أمانيتي ووُسم بأسماء عديدة: "آكلو لحوم البشر" "رومانطيقيون عُصابيون"..

لحظة انشقاق في تاريخ الرواية الإيطاليّة انقلبت بموجبها المعايير الجماليّة المكرّسة رأسا على عقب، فقد جعل هذا الجيل من عالم إيطاليا السفليّ فضاءً لكتابته، ومن أسئلة الشباب الجديدة شرارةً للإبداع.

إنّه جيل الحياة الجديدة لا هاجس له غير التغلغل في عوالمها السفليّة عوالم القذارة والجنس وموسيقى الروك، ومن هذه العوالم تنهض أعماله الإبداعيّة لتكشف لنا عن عالم تتهافت قيمه يوما بعد آخر وتضعنا وجها لوجه أمام الحقيقة الصادمة، لذلك تنهض مكتوية بوهج الحياة لا بالكلمات، فاللغة هنا ليست وسيلةً أو أداةً وهي أيضا ليست عنصرًا مقصودا لذاته، بل هي المعادل الآخر للحياة من معدنها تُصهر ومن إيقاعها الحديث تنسُج قاموسها بعيدا عن فخامة الأسلوب.. قريبا من الحياة.

حياة بحياةٍ وعينان زمانان

تدور أحداث رواية "آخذك وأحملك بعيدا" على شخصيتين محوريتين، شخصيّة "بييترو موروني" الفتى الصغير المثابر في الدراسة، الفتى المضطهد من بين أقرانه في المعهد والمضطهد داخل عائلته الفقيرة، يحاول أن يرسم لنفسه مسارا أبعد من تهديدات أبيه بتحويله إلى فلاّح بمجرّد رسوبه مرة واحدة، وأبعد من مصير أخيه مدمن الكحول الذي يقتات من الأوهام، وشخصيّة "جراتزيانو بيليا" الكهل الذي استغرق حياته في اللذائذ والمخدرات بحثا عن حبّ لن يجيء، جراتزيانو عازف القيتار الفاشل، والعاشق الذي تقوده الأهواء.

وهكذا يضعنا أمانيتي أمام زاويتي نظر إلى العالم أو أمام عينين، عين الطفل الحالم بتغيير مصيره، وعين الكهل الباحث عن استعادة حياة خلّفها وراءه، وبين هذين العينين تتشكّل رؤية الكاتب لقضايا الحياة والمصير في عالم كلّ ما فيه يدفع إلى اليأس، ولا خيار أمام كائناته سوى تغيير حياة بأخرى، لقد دفع جراتزيانو ضريبة رفضه لتغيير حياته حين أُتيحت له الفرصة وانتهى نهاية مأساوية، ومن المأساة نفسها يختار بييترو الفتى الصغير مصيره بعد أن تمّ ترسيبه لسبب لا دخل له فيه، يختار الفتى تغيير حياة بأخرى ومواصلة دراسته وإن كان السجن فضاءها، المهمّ ألاّ يسير في الطريق نفسه الذي خُطّ له سلفا. هل لدينا القدرة على تغيير حياة بحياة؟ ذلك ما يطرح أمانيتي عبر عينين زمانين.

ألا بدّ من دفع الضريبة؟

يبدو أن "دفع الضريبة" هو الخيار الفنيّ الذي يحرّك الرواية، ومثلما دفعت كلّ شخصيّة ضريبة اختيارها، فإنّ أمانيتي يورّط القارئ نفسه في هذه اللعبة، فيقدّم له عملاً ممتعا مُسليّا في الظاهر يجعله لا يتوقّف عن الضحك طوال 400 صفحة لما يعترضه من مواقف لا تخطر له على بال ومن مشاهد ساخرة مضحكة غريبة، ولكنّه سيسلّم له فاتورة الضحك خلال الصفحات الأخيرة من العمل، عبر نهاية مأساوية تقلب كل شيء رأسا على عقب وتمنح كل أحداث الرواية عمقها الذي يرتقي بها إلى مصاف الأعمال الادبية الكبرى، وكأننا قبالة قصيدة تفاصيل تبدو في الظاهر التقاطا لحشد من الجزئيات ومجرّد محاكاة لما يحدث في الواقع، ولكنّ الشاعر البارع يقلب في السطر الأخير معاني كل الكلمات إذ يقحمها في فضاء آخر.

الرواية الطريق

قدّم هذه الرواية الشاعر التونسي نصر سامي، وهي عادة حميدة درجت عليها دار مسكيلياني لتعريف القارئ بعوالم الروائي والرواية، وقد ركّز نصر في تقديمه على سمات هذا الجيل الجديد من الكتّاب وعلى جماليّة الرواية دون أن يفضح أسرارها، ومن هذا التقديم اخترنا مقطعا رأيناه دالاّ على المتعة التي رافقتنا طوال قراءة العمل: "آكلو لحوم البشر" اسم جيل روائيّ جديد تزعّمه نيكولو أمانيتي، اسمٌ مُدوّ، جارح، محيّر ومربك، متوحّش وفضّاح، العالم مخز، هذه هي الحقيقة، ولحم البشر مأكول ورخيص وهو أقلّ الأشياء اعتبارا في عالم تهاوت جميع قيمه، اسم يقلق الرّاحة، يزيل القشرة ويكشف الوسخ المتلبّس باللحم والعظم، ولأنّه كذلك فإنّ أمّانيتي يستنبط أسلوبا خاصّا، لم نألفه من قبل في الرواية الإيطاليّة، علامتُه الفارقة: "آخذك وأحملك بعيدا".

رواية طويلة تقرأ مرّة واحدة، لن تقدر على تركها قبل إكمالها، ستجد نفسك غارقا في التّفكير في حياتك قائلا "متى سأستفيق من هذه الخرافة؟"، حينما ستبدأ الإجابة يكون الكتاب قد تحوّل من كلام على الورق إلى طريق، ما حقيقتك؟ هل لديك القدرة على تغيير مسارات حياتك؟ هل يجب أن تكون على هامش الحياة، أم أحد أبطالها؟ أسئلة لم تطرح أبدا في أثر روائي بكلّ هذه القسوة والدويّ. الآن أكملت القراءة، وليس أمامي إلاّ وضع قدميّ على أوّل الطّريق. "